يبارحك الأصدقاء إذا بارحتك الأغاني الحزينة..
أو بارحتك الهموم
تبارحك الفرحة البكر حين تبارح “أرواد”
يخمد ذاك البريق المشعشع في عين “فاطم”
تنكرك الطرقات، وينكرك الطيبون
إذا عثرت خطواتك في سيرها
فأنت مدين لهذي الطفولة بالحزن والوطن المتناثر
خلف البحار
وكيف سترجو شفاءك من وطن، يتفشى
بصدرك، كالجثة الفاسدة
لأنت المواويل للبحر، إن هدأ البحر
أنت السكينة للنخل، إن أثمر النخل
أنت العصافير، تجمع أعشاشها في الحديقة
كيف تبارح هذي العصافير،
تتركها للكلاب
لتقتل أعشاشها النابضة..؟!
أما زلت ترحل بين فيافي الجزيرة،
دون غطاء على الرأس
يحميك من لسعات الهجير
ومن بؤس تلك التلال من الخلق
ها أنت تجترح الموبقات، وتشعل عشبة نارك..
ما ذا رأيت ؟
أطفت على مهل حول سور المدينة في ليلة شاتية
أأحرقت عشبة قلبك بين بيوت الرياض العتيقة والصندقات
رأت عينك المستثارة ما لا يرى..؟
محزن ما يرى..!
هل تركت فطورك عند الصباح، لتأخذ فاطم _ عمداً
إلى المدرسة ؟
وكيف ستجلس فاطم في الدرس،
كنت تعلمها الأغنيات الحزينة
تغرس فيها بذور البشارة
لكنها حين تجلس في الدرس
ما هذه الثرثرات السخيفة في الدرس
لا زلت تحلم في طفلة تستبد بمن حولها
وتعيد صياغة أحلامها، وما شوهته القبيلة
من وجهها الغجري
ستقرأ بين دفاترها ما رواه (غريب) عن الدار
ما ضيعته القبيلة من دمه الأخضر المتوهج
كان يحاصر أجسادهم
وكانت قبائلهم تحتسيه إذا وردت مورداً في الظهيرة
تمزجه بحليب النياق إذا دارت الكأس بالمائدة
وهذا الغريب له شأنه يوم يرتد منتصراً
يوم يجمع كل شتات ملامحه، وأصابع كفيه
من ردهات مخازنهم
سوف يلتف حول أسرتهم حين يحتفلون كعادتهم
بمعاشرة النوق
ترقص “راشيل” فوق عباءاتهم، رقصة الليلة الدموية
حيث يمسد لحيته “شهريار”..
وحيث يهب الغريب على الزرع مثل رياح الشمال المثيرة
ينشر بين المداخل رائحة الشرق
يشعل قنديله المتجهم حول نجوع قوافلهم
هكذا سيكون له شأنه
فهل كنت تبعث هذي الدماء الحزينة، في وجه فاطم
فيما تكفكف من قهقهات دفاترها..؟
أناديك باسمك كي يعرفوك وتعرفهم
فإما قرأت الجريدة لا تفتجع بنقيق الحضارة
تلك حضارتهم
وما أنت إلا الشهادة للعصر
لست الشهيد الوحيد على أمرهم
فحين تحاصرك الهمهمات، وتقفو خطاك الوجوه
التي تتدبر أمرك،
لا تبتئس
فلست الوحيد الذي نبذته العشيرة
ضيعه أهله
تركوا أمره للدروب العسيرة تحثو عليه التراب
هناك الصعاليك في واد عبقر يمتحنون الخيول
يعدون قهوتهم فوق نار مجوسية
هذه القهوة العربية سوف تكون سجالاً
سيشرب كسرى العرب
قهوة ما احتساها على ظهر بغلته
ولا خطرت بشؤون مناماته
يوم “قايض (…) العبور (…) الممرات
لا كان ذاك الممدد للذبح
سيد تلك البلاد”(1) !
أكنت تعلم فاطم هذي القراءات _ كيف
يعد الصاليك قهوتهم..
ثم كيف ستقفز فاطم في ثوبها المتورد
يلعب فيه الهواء الندي
تأخذ دلتها وفناجين جدتها
وتصب لهم قهوة الكبرياء
تودعهم بمقاطع من شعر “سعدي”
وما قاله الشعراء عن النخلة العربية
تهمس في خيلهم: لن تطيلي الغياب
وترفع حناءها للوداع
ستفتح “فاطم” شباكها، بعد دهر من الانتظار
وسوف تزيل الغبار الذي ملأ السقف
ما نسجته العناكب بين فساتينها من ركود المشاوير
تفتح شباك غرفتها للهواء الجميل مع الصبح
للصخب المتوهج عند الصعاليك
للأغنيات التي اشتعلت نارها في ثياب العشيرة
تنشدها الفتيات الصغار
ستهتف فيها طيور الحديقة
ترسلها السعفات إلى شجر الطلح
يغتسل الرمل والسنبلات بماء الأناشيد
تدخل هذي الأناشيد في كل بيت
كما يدخل الضوء في غرفة
ملها الانتظار…!
————————————-
هيوستن / الولايات المتحدة / 1982م
(1) المقطع للشاعر الفلسطبيني الراحل عبد اللطيف عقل، من قصيدته:
(ملاحظات أحد الخوارج على اتفاقية التحكيم) في مجموعة (هي أو الموت) 1973م.