هذا التقي النقي الطاهر العلم

20 مارس، 2012 | فضاءات ثقافية | 0 تعليقات

غازي القصيبي

لن تنفد كلمات الكتاب في الحديث عن غازي القصيبي رحمه الله، حتى لو اتخذوا من مياه وزارة المياه مداداً لأقلامهم، فلم يكن فقده فقد رجل واحد، بل كان كتيبة من الرجال، كان واحداً (كالألف إن أمر عنى)، ولم يفقده أهله وأبناؤه وأصدقاؤه المقربون إليه فحسب (ولكنه بنيان قوم تهدماً)، كان مثالاً حياً للمثقف العضوي بحسب تعبير انطونيو غرامشي، وهو ذلك المثقف الذي يكسر برجه العاجي ويسعى إلى تطبيق أفكاره وآرائه في حياة الناس، ينزل من صومعته وعزلته وهو يحمل على عاتقه هموم الفقراء والكادحين والمظلومين ومن تقطعت بهم سبل الحياة ، فيشعر بآلامهم وأحزانهم ويعيش أحلامهم، يأكل من طعامهم ويمشي في أسواقهم كأنه واحد منهم.كان علامة فارقة في حياتنا الاجتماعية والفكرية والإبداعية، ورمزاً من رموز الإصلاح والتنوير، ومجاهداً كبيراً في سبيل التنمية والتطور والبناء، وغازيا ملهماً لجيوب التخلف والتشدد وخفافيش الظلام. عندما تقلد الوزارة أحدث نقلة نوعية لصورة الوزير في أذهان المواطنين، فهو أول وزير يجرى ذكره على كل الألسنة، ألسنة الكتاب والشعراء والمثقفين، وألسنة الفقراء والفلاحين والمرضى والعاطلين عن العمل.معظم هذه الألسنة كانت تلهج بذكره وتبتهج لرؤيته وتدعو له بالتوفيق، وقلة قليلة من ذوي الإعاقات الذهنية والبارانويا الفكرية كانت تسلقه بألسنة حداد وتأكل من لحمه المسموم. لا يمكن أن ينسى الناس معاركه التي كان يخوضها بلا راية في عدة جبهات، جبهة الإصلاح الاجتماعي، والسعي إلى توفير حياة كريمة لأبناء الوطن، ومجابهة تجار التأشيرات وسماسرة العمالة الوافدة الرخيصة، التي أغرقت البلاد بكل من هب ودب من أقاصي الأرض، حتى صار وجود فرصة عمل لشاب متخرج حديثاً أندر من الكبريت الأحمر. وجبهة المواجهة مع أفكار التطرف والتشدد والاتجار بالدين، ومع حركات التكفير والتفجير التي تدعو الناس إلى العودة إلى حياة إنسان الغاب. وكان غازي جريئاً في مجادلتهم، ومخاطبتهم بلغتهم، وكان يقول: لا يفل (الكاسيت) إلا (الكاسيت). أما كفاحه في سبيل عمل المرأة، ومشاركتها في الحياة العامة، وإخراجها من ظلمات الجهل والفقر والفاقة إلى نور المعرفة والمشاركة والعمل الشريف، فقد جوبهت بعاصفة من الاعتراض والسب والقذف والتشهير، بل والاتهام في الدين والخلق والعقيدة، كما لو أنه كان يدعو إلى الفسق والفجور والعياذ بالله. لكنه، رحمه الله، كان مؤمناً بقضيته، واثقاً من رؤيته (كان يرى ما يريد..) ، وكان يخرج من كل معركة أقوى من خصومه، وأشد صلابة من أعدائه، وكأنه كان يستبطن روح شاعره المفضل وتوأم روحه الشعرية، أبي الطيب المتنبي وهو يتحدث عن نفسه: (كَم قَد قُتِلتُ وَكَم قَد مُتُّ عِندَكُمُ (+) ثُمَّ انتَفَضتُ فَزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ). ومن المفاهيم الأساسية في السياسة الشرعية، أن الوزراء في الدولة الإسلامية هم أركان الحكم، وهم أعوان الملك في قضاء حوائج شعبه، وواسطة العقد بينه وبين مواطنيه، ولذلك اشترطوا في الوزير أن يكون صادقاً أميناً عفيفاً، يعين الملك على أداء واجباته تجاه شعبه، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإن تأخر استعجله، وإن تقدم شدّ على يديه، وكان له ظهراً يتقوى به على أثقال مملكته. وقد حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام: (واجعل لي وزيراً من أهلي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري). وهكذا كان حال غازي مع الملك حفظه الله، فكان أحد الوزراء القلائل الذين يشدّ بهم الظهر، كان صادقاً وأميناً، نقياً كالثلج، نظيف الجيب، جريئاً في قول الحق، صادقاً في نقل هموم المواطن إلى المسؤول. لم ألتق بالدكتور غازي القصيبي، على ذكر روحه السلام، سوى مرة واحدة، وكان ذلك إثر سجال أدبي ساخن دار بيننا على صفحات (الجزيرة). كنت شاباً يافعاً حديث عهد بالكتابة الأدبية، وكنت يومها أبحث لنفسي بين الجرائد والمجلات عن موطئ (قلم)، فكتبت تعليقاً على محاضرة ألقاها الدكتور غازي في كلية الآداب ، كان وزيراً للكهرباء فيما أذكر، واختلفت معه في المقالة حول مفهوم الشعر وعلاقته بالحياة، ولم يخطر ببالي أنه، وهو الوزير الذي كان ملأ السمع والبصر، سيتواضع ويرد على كاتب ربما يسمع به لأول مرة، ولكني فوجئت في الأسبوع التالي برد قوي منه منشور في نصف صفحة من الملحق الأدبي للجزيرة، فيه احترام وتقدير لوجهة نظري، وفيه أيضاً نقض موضوعي لها. لكنه كان أيضاً مبطنا بسخريته الأدبية المعهودة، فرددت عليه ، ثم رد هو علي مرة أخرى… وهكذا صار يكتب أسبوعاً وأكتب أسبوعاً… إلى أن أدرك رحمه الله أنه أمام شاب مندفع بقوة جارفة كجمل بلا خطام، يريد أن يثبت صحة رأيه بكل السبل الممكنة، فقرر إيقاف السجال، وكتب مقالة طريفة بعنوان: (انسحاب من طرف واحد). بعد ذلك بفترة وجيزة التقيت به، فأدركت أنني أمام إنسان عظيم تتجسد فيه كل معاني الإنسانية، والأخلاق العالية، والنبل العميق، والتواضع الجم، ومنذ ذلك اليوم دخلت محبته إلى قلبي بلا استئذان، واستوطنته إلى هذا اليوم الذي نودعه فيه، وندعو له في هذا الشهر الكريم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار.

مقالات مشابهة

الإنسان القصيدة ..

الإنسان القصيدة ..

أتحرّز كثيراً في القول بأن شخصاً ما هو القصيدة، ولكنني أمام عبدالكريم العودة، لا أجد وصفاً يشابه جوهره، إلا في القلة من أمثاله، ولذا سأزحزح تحرّزي جانباً، لأقول بأنه هو الإنسان القصيدة، الأشد عذوبة وعمقاً ونبلاً وألقاً في حياتنا الثقافية.
فهو القصيدة في ابتسامة الماء التي لا تفارق

عودة إلى العودة ..

عودة إلى العودة ..

أحتفظ للشاعر والمثقف الكبير المعلم عبد الكريم العودة بأربع قصائد هي «خيول المتنبي على أبواب كافور»، «توقيعات على رمل الخليج»، «فاتحة القصائد»، و»البكاءُ بين يدي فاطمة».
وهي قصائد تشبه عبد الكريم إلى حدٍّ بعيد: فهي عالية رقيقة، دافئة عميقة، هادئة ثائرة، ذات طابع سيمفوني، وهي حوار أمواج: مدٌّ وجزر

كاتب الكوميديا السوداء

كاتب الكوميديا السوداء

فجع الوسط الثقافي بالأنباء الواردة من الصين، تنبئ بما لا يسر حول صحة الصديق الشاعر الكبير عبد الكريم العودة الذي تعرض لأزمة قلبية، دخل على إثرها مستشفى بالصين، ويحتاج إلى عملية لتثبيت دعامات القلب، وفجعت كالآخرين، وتنقلت بين حروف المقال الذي كتبه الأستاذ عبدالله الناصر،

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *